إنه الحادث الأخطر والأهم في أواخر القرن الخامس الهجري، ولا نكون مبالغين إذا قلنا أنه الأخطر في حياة الأمة الإسلامية وقتها، وهو ليس وليد ساعته أو حتى يومه أو شهره أو عامه، أو هو نتيجة سبب بعينه، ولكنه حادث وقع كمحصلة أسباب كثيرة داخلية وخارجية، ويعتبر احتلال بيت المقدس هو شرارة انطلاق سلسلة الحروب الصليبية التي تعتبر من أعاظم الحوادث في التاريخ الإسلامي، ولهذه الحروب أصل كبير تفرع منه أسباب كثيرة مساعدة.
أصل الحروب الصليبية:
يعتبر كرسي البابوية هو أصل الحروب الصليبية كلها والمحرض الأول لها والداعي والمخطط لها، ويعتبر البابا [جريجوري السابع] هو أول من فكر في هذه الحروب، وكان رجلاً طموحًا واسع النشاط، ذا طبائع وميول حربية، ولكنه لم يعش حتى يطلق شرارة البدء لهذه الحملات الدينية، وقد تولى تلميذه وخليفته [أوربان الثاني] مهمة تنفيذ هذه الفكرة الشريرة الدموية، وكانت الأسباب التي دعت جريجوري وخليفته أوربان في التفكير في هذه الحروب عدة أسباب منها:
[1] استنجاد إمبراطور بيزنطة ميخائيل السابع ثم ألكسيوس كومنين بكرسي البابوية لوقف الزحف الإسلامي من قبائل الأتراك السلاجقة على منطقة الأناضول أو آسيا الصغرى، والتي كانت تعتبر من أملاك البيزنطيين وذلك عقب معركة [ملاذكرد] سنة 463هـ، وقيام دولة إسلامية عند خاصرة الإمبراطورية البيزنطية تهددها باستمرار، ووافق كرسي البابوية على المساعدة لضم الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية تحت سيطرة وهيمنة الكنيسة الغربية الكاثوليكية.
[2] الانتصار الكبير الذي حققه ملك إسبانيا الصليبي [الفونسو السادس] باستيلائه على طليطلة عاصمة إسبانيا القديمة، وذلك سنة 476هـ، والحماسة الصليبية التي أحدثها هذا الانتصار، وكان ألفونسو السادس هو أول من لبس شارة الصليب في حروبه ضد المسلمين عندما أعلن عن حرب الاسترداد «الريكونكيستا» لإعادة إسبانيا إلى النصرانية مرة أخرى.
[3] الزيادة السكانية الكبيرة لأوروبا، حيث تضاعف عدة مرات في العهود الأخيرة، وحاجة هؤلاء إلى أراضي جديدة وموارد طبيعية كثيرة، وأوروبا من القارات الفقيرة في هذه الأمور.
[4] رغبة البابوية في إنهاء حالة الصراع المستمر بين كبار الإقطاعيين في أوروبا خاصة في فرنسا والتي أدت لحروب طاحنة راح ضحيتها الكثيرون من أبناء أوروبا، وكانت فكرة الحروب الصليبية على المسلمين لتوجيه هذه الطاقة الهجومية والقتالية لصالح النصرانية.
[5] نظام التوريث الغريب في كثير من الدول الأوروبية الذي كان يعطي التركة كلها للابن الأكبر وحرمان باقي إخوته، مما دفع بالكثير من الأمراء وأبناء الإقطاعيين للاشتراك في هذه الحروب من أجل كسب أموال وقطاعات لهم بالشرق، أضف لذلك رغبة عدد كبير من تجار المدن الإيطالية والفرنسية والإسبانية للاشتراك في هذه الحروب بدافع اقتصادي بحت.
[6] السبب الأخير وحقيقة هو الأصل والأساس لهذه الحروب وهو السبب الديني وهو السبب الحقيقي والمعلن أيضًا لهذه الحروب وهو إنقاذ قبر المسيح واستعادة الأراضي المقدسة من قبضة المسلمين وإعادة بلاد الشام إلى النصرانية مرة أخرى كما كانت قبل الإسلام، وكانت لحركة الدعاية الواسعة التي قام بها رجل مهووس اسمه «بطرس الناسك» أثر كبير في تأجيج المشاعر الدينية وتذكية الأحقاد الصليبية عند الأوروبيين، وكانت مسألة المضايقات المزعومة للحجاج النصارى بالشام من أهم النقاط المثارة في الدعاية المضادة للمسلمين.
مجمع كليرمونت:
بعد أن تكاملت الأسباب الداعية لشن الحرب الصليبية، قام البابا «أورمان الثاني» بالدعوة لمجمع ديني عقد في مدينة كليرمونت الفرنسية وذلك لتجنيد جيش نصراني وشن الحروب الصليبية على بلاد الإسلام، ولقد جاءت الاستجابة الرسمية من ملوك وأمراء الغرب الأوروبي خاصة من فرنسا وإيطاليا بصورة كبيرة فاقت توقعات البابا نفسه، وتسابق الأشراف والكونتات للانضمام للحملة الصليبية ونيل شرف فتح بيت المقدس، ومن أهم قادة هذه الحملة.
ريمون الرابع كونت تولوز، وكان أكبر فرسان الصليبيين وأعتاهم، وكان لقبه «أدفوكاتور» أي المدافع والمحامي عن بيت المقدس، وأخوه بولدوين البولوني دوق اللورين السفلي [كلاهما من فرنسا].
الأسقف أدهماردي مونتيل أسقف ليبويه.
دوبرت الثاني دوق نورماندي ومعه إستيفان هنري كونت بلوا ومعه أيضًا هيوكونت فيرمندو.
ومن إيطاليا الكونت بوهيموند بن دوبرت جيسكارد دوق أبوليا.
انطلقت الحملة الصليبية الأولى إلى القسطنطينية وذلك سنة 490هـ بأعداد ضخمة قدرتها بعض المصادر التاريخية بمليون مقاتل، ثم توجهت الحملة إلى منطقة الأناضول واصطدمت مع سلاجقة الروم وهزمتهم عند «نيقة»، ثم توجهت بعد ذلك إلى الشام وكانت أنطاكية هي أولى المدن التي حاصرها الصليبيون، ولكن قبول الوصول إليها انفصل عن كتلة الحملة الصليبية الدق بولدوين واتجه شرقًا ناحية الجزيرة الفراتية، حيث استولى على الرُها وأسس فيها أول إمارة صليبية في بلاد المسلمين، وكانت غالبية سكان الرُها من الأرمن النصارى وقد ساعدوه على احتلال الرُها.
استولت باقي الحملة على أنطاكية بسبب خيانة بعض حراس الأبواب، على الرغم من المقاومة الباسلة التي استمرت تسعة شهور، ثم حاول أمير الموصل [كربوقا] بالتعاون مع باقي أمراء الجزيرة الفراتية إغاثة أنطاكية ولكن لسوء إدارة المعركة واستبداد «كربوقا» بالرأي انهزم المسلمون، ثم توجه الصليبيون بعد ذلك إلى «معرة النعمان» فاحتلوها وذبحوا أهلها بسبب مقاومتهم للصليبيين.
تقدم الصليبيون بعد ذلك إلى بيت المقدس دون ممانع، وكان وقتها بحوزة الفاطميين الذين لم يبدوا عظيم مقاومة تذكر، وفي يوم 22 شعبان 492هـ الموافق 15 مايو 1099م اقتحم الصليبيون المدينة وأنزلوا بأهلها مذبحة فظيعة تقشعر لها الأبدان، حيث قتلوا سبعين ألفًا من النساء والأطفال والشيوخ، وقتلوا كل من احتمى بالمسجد الأقصى حتى وصلت دماء المسلمين لنحور الخيل في وحشية وبربرية لم تعرف البشرية مثلها، وكانت موضع إدانة واستنكار حتى من المؤرخين الغربيين والأوروبيين المعاصرين واللاحقين.
الجدير بالذكر أن العالم الإسلامي وقت وقوع هذه الفجيعة كان يعيش حالة من الفوضى الشاملة خاصة في منطقة الشام، وأقوى دولة مسلمة موجودة وقتها وهي دولة السلاجقة كانت تشهد صراعًا مريرًا على كرسي السلطان بين أبناء ملكشاه محمد وبركياروق، وقد شغلهم القتال الداخلي عن نجدة المسلمين، والخلافة العباسية واهية لا تملك من الأمر شيئًا، والدولة الفاطمية الخبيثة سعيدة ومسرورة بما يجري، لأن الصليبيين في الشام أصبحوا حائلاً بينهم وبين السلاجقة الذين مدوا نفوذهم إلى الشام والحجاز وهددوا كيان الفاطميين بقوة.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن تاريخ سقوط القدس «15 مايو» يوافق نفس تاريخ قيام دولة إسرائيل وهو توافق أحسب أنه ليس عفويًا